يستهلك العالم يوميا أكثر من ملياري فنجان من القهوة، ذاك المشروب الذي لاقى رواجا كبيرا في مختلف أنحاء العالم وأصبح محركا لعجلة الاقتصاد في بعض الدول، ويعد واحدا من أكثر السلع تداولا في العالم.
ولا يكاد البعض يتصور الحياة من دون القهوة. وبعد أن استهوى سحرها أفئدة سكان بعض الدول المعروفة بعشقها للشاي، كالصين، قد تصبح القهوة مشروب العالم المفضل بلا منازع.
لكن ما سر هذا الشغف المفرط بالقهوة، هل بسبب مذاقها الحاد والمفعم بالروائح، أم تأثيرها المنشط للجهاز العصبي أم لأنها أصبحت وسيلة للتلاقي والتجمع؟ وكيف يتفادى مزارعوها التحديات الناتجة عن تغير المناخ؟
تبدأ القهوة طريقها من مرتفعات أثيوبيا الخضراء، مهد شجرة البن العربي “أرابيكا”. وتبدو ثمار الشجرة في البداية أشبه بحبات الكرز، وتستخرج منها البذور وتُجفف ثم تحمص وتصبح صلبة كحبات الجوز وتكون جاهزة للطحن.
ويقال إن أول من اكتشف التأثير المنبه للقهوة كان شعب الأورومو في إثيوبيا، ولا تزال القهوة مكونا مهما في مطبخهم التقليدي.
ومن غير المعلوم متى وكيف انتشرت القهوة خارج إثيوبيا، لكن الوثائق التاريخية تشير إلى أن الصوفيين اليمنيين كانوا أول من عشقوا القهوة من خارج أفريقيا في العصور الوسطى، وارتبطت القهوة ارتباطا وثيقا بطقوسهم وشعائرهم.
وتقول كلوديا رودين، كاتبة في مجال الأطعمة: “لم تخل حلقة ذكر واحدة من القهوة”. إذ كان الكافيين يساعدهم على ممارسة طقوسهم آناء الليل، وكان تحميص حبوب القهوة يرمز إلى السمو الروحاني.
وسرعان ما انتشرت القهوة في الشرق الأوسط والإمبراطورية العثمانية، حيث لفتت أنظار التجار الغربيين، وجلبوا القهوة إلى أوطانهم في القرن السابع عشر. وهناك لاقت شعبية في البداية بسبب فوائدها الصحية.
إذ أشارت رودين إلى إعلان في إحدى الصحف عام 1657 وصف المشروب بأنه “يغلق فم المعدة ويقوي القلب، ويساعد على الهضم ويبعث على النشاط”.
وهذه الملاحظات أيدتها بعض الدراسات، إذ أشار استعراض للدراسات أجرته سوزانا لارسون، من معهد كارولينسكا بالسويد، إلى أن كل كوب من القهوة يوميا يقلل مخاطر الإصابة بالنوع الثاني من داء السكري بنسبة ستة في المئة.
وخلصت دراسة أجرتها لاورا فان دونغن، من جامعة واغننغن بهولندا، إلى أن المواظبة على شرب القهوة تقلل مخاطر الموت جراء الإصابة بأمراض القلب بنسبة 20 في المئة على الأقل.
وتحولت بيوت القهوة الأوروبية إلى ملتقيات لرجال الأعمال، وبعضها شهد ولادة المؤسسات المالية الشهيرة، مثل شركة “ليودز” للتأمين، التي خرجت إلى النور في مقهى “ليودز” في القرن الثامن عشر.
وجلب المستوطنون الأوروبيون القهوة إلى مستعمراتهم في آسيا وأمريكا الجنوبية، مثل البرازيل وفيتنام وكولومبيا. وما لبث أن ارتبط بيع القهوة بتجارة العبيد التي كانت مباحة حتى الخمسينيات من القرن التاسع عشر في كولومبيا والثمانينيات من القرن التاسع عشر في البرازيل.
ولا تزال القهوة أهم روافد الاقتصاد في البرازيل وفيتنام وكولومبيا، التي تحتل المراتب الثلاث الأولى في قائمة الدول المنتجة لحبوب القهوة، بينما تتصدر الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا قائمة الدول المستوردة لها
اشتهرت أشجار البن بصعوبة زراعتها، حتى في الوقت الحالي رغم تطور التكنولوجيا الزراعية. فإن أشجار البن العربي “أرابيكا”، الذي يفضله معظم عشاق القهوة، لا تنمو إلا في درجات حرارة محددة تتراوح ما بين 15 و24 درجة مئوية، وتحتاج لأمطار غزيرة.
وكما تعتمد جودة الخمر على البيئة التي ينمو فيها العنب، كذلك يعتمد مذاق توليفة القهوة على الظروف البيئية التي تنمو فيها الحبوب.
وتتوفر في ولاية ميناس جرايس في البرازيل الظروف المثالية لنمو القهوة، إذ يوفر ارتفاع المزارع إلى ما يصل إلى 1000 متر فوق مستوى سطح البحر الرطوبة المثالية والبرودة المطلوبين لإنبات البذور، ورغم ذلك، يحفظ المزارعون أوراق أشجار البن اليافعة ذات الأنسجة الرقيقة في الظل لتفادي تعرضها لأشعة الشمس المباشرة.
وتثمر الأشجار عندما تصل إلى مرحلة البلوغ أزهارا بيضاء تسقط بعد حين ليحل محلها الكرز الذي يحتوي على حبوب البن. ولا يحصد المحصول الأول لشجرة البن إلا بعد عامين ونصف من زراعة الشجرة.
ولا يبدأ الحصاد إلا بعد أن يتذوق مراقب الجودة الحبوب ليتأكد من أنها مطابقة لمعايير الجودة المثلى. ثم تفرز الحبوب وتغسل وتصنف وتفرد لتجف، وبعدها تعبأ في أكياس مفرغة من الهواء وتنقل في الشاحنات إلى مختلف الوجهات.
ويعتمد أكثر من 120 مليون عامل وأسرهم حول العالم على زراعة وإنتاج البن كمصدر دخل أساسي.
لا تمثل الزراعة إلا المرحلة الأولى في إنتاج مشروب القهوة، فبعد الحصاد ينبغي أن تطهى حبوب القهوة. ويعد خلط الحبوب وتحميصها في بعض الدول، مثل إيطاليا، التي يعود فيها تاريخ صناعة القهوة إلى القرن السادس عشر، من الحرف التي تتطلب مهارة استثنائية.
ويقول ليوناردو ليلي، خبير بتحميص القهوة: “أستمع إلى صوت تشقق الحبوب، وأراقب لونها وأتشمم الروائح التي تفوح منها، وعندما أشعر أنها نضجت، أطفئ النار وأتركها لتبرد”.
واشتهرت إيطاليا أيضا بآلات الإسبرسو التي تستخلص المذاق من البن المطحون. إذ تدفع الآلة الماء المغلي عبر البن تحت ضغط عال، لتحصل في النهاية على كوب مركز من القهوة تعلوه طبقة الرغوة عسلية اللون المميزة.
ويعود الفضل في نشر آلات الإسبرسو حول العالم إلى هاورد شولتز، مدير أحد المقاهي الصغيرة في ولاية سياتل، الذي وقع في غرام الإسبرسو الإيطالية أثناء زيارته لميلانو. وبعدها استحوذ شولتز على حصة الأغلبية في المقاهي وأخذ في التوسع حتى دشن سلسلة مقاهي “ستاربكس” الأكثر شهرة في صناعة القهوة في العالم.
غير أن شولتز لم ينجذب إلى مذاق الإسبرسو بقدر انجذابه للمجتمع الذي رآه في المقاهي، التي أصبحت بمثابة استراحة بين المنزل والعمل، حيث يلتقي الناس، على اختلاف أعمارهم، وفي أي وقت أثناء اليوم، ويتجاذبون أطراف الحديث أثناء تناول وجبة خفيفة شهية.
ويهتم الناس الآن بمصدر القهوة ومذاقها والمكان الذي يحتسونها فيه أكثر من أي وقت مضى، وأصبحت القهوة وسيلة للتلاقي والتجمع مع الآخرين، ولعل هذا يعد سببا في شعبية المقاهي المتخصصة.
وقد تعود جذور هذه النظرة إلى القهوة كوسيلة لجمع الناس معا، إلى الطرق الصوفية في الشرق الأوسط، حين كانت القهوة حاضرة في الكثير من طقوسهم وشعائرهم. وتقول رودين في دراستها عن القهوة: “في هذه المنطقة التي اشتهر سكانها بكرم الضيافة، تعد القهوة رمزا لحفاوة الاستقبال”.
لاقت القهوة انتشارا واسعا حتى في الدول التي عرفت بعشقها للشاي، كالصين. ففي عام 1999 دشن “ستاربكس” أول مقهى في بكين، واليوم يفتتح مقهى جديدا في الصين كل 15 ساعة.
وأخذ الجانب الاجتماعي للقهوة يجتذب الشباب الصيني في الآونة الأخيرة، الذين زاد إقبالهم على المقاهي المتخصصة وأصبحوا يميزون توليفات القهوة الفاخرة.
وفي الفترة ما بين 1992 و2017، شهد الطلب على القهوة في آسيا زيادة سنوية قدرها ستة في المئة، أي أعلى من معدل الزيادة في الطلب على القهوة في سائر أنحاء العالم بثلاثة أمثال، لكنه لم يصل بعد إلى مستوى الطلب في الدول المعروفة بعشقها للقهوة.
إلا أن ثمة عقبات تواجه هذا الطلب المتزايد على القهوة، أولها تغير المناخ. فإن أشجار البن العربي، لا تتحمل التقلبات الجوية، وقد يؤثر ارتفاع درجات الحرارة العالمية وعدم انتظام هطول الأمطار على بقاء هذه الأشجار على المدى الطويل.
وفي مركز الزراعة الاستوائية بكولومبيا، توقعت أوريانا أوفال ريفيرا، في إحدى التجارب، أن تقفد البرازيل 25 في المئة من الأراضي المناسبة لزراعة البن العربي بحلول عام 2050.
ويقول أرون ديفيز الباحث بحدائق كيو غاردنز بلندن، إن بعض الأراضي المرتفعة في إثيوبيا، التي كانت في السابق لا تصلح لزراعة البن بسبب برودتها، ستصبح بعد ارتفاع درجات الحراة العالمية مناسبة لزراعة البن. وهذا سيؤدي إلى انتقال مراكز إنتاج القهوة إلى مناطق أخرى.
وفي المقابل، يمكن التركيز على زراعة بعض الأنواع من أشجار البن الأكثر تحملا لتقلبات الطقس، مثل “روبستا”، رغم أن عشاق القهوة لا يستسيغونها بسبب مرارتها. وربما يمكن إنتاج محاصيل بنفس مذاق بن “أرابيكا” لكنها أكثر قدرة على التحمل، باستخدام أساليب الانتقاء الاصطناعي. وتجري في الوقت الحالي بعض المزارع تجارب لإنتاج أفضل المحاصيل في الظروف البيئية غير المستقرة.
وفي الوقت الحالي، يأمل الملايين الذين ينخرطون في زراعة وإنتاج القهوة، وكذلك جميع عشاق القهوة الذين يستمتعون بقهوة الصباح لتنشيطهم في بداية اليوم، بأن تنجح هذه التجارب.
● تنويه لزوار الموقع (الجدد) :- يمكنك الإشتراك بالأخبار عبر الواتساب مجاناً انقر هنا ليصلك كل ماهو جديد و حصري .