للاشتراكPolicyDMCAأعلن معنااتصل بنا
عاجل وهام

تابعنا على الواتساب ننشر وظائف واخبارونصائح للمقابلات الشخصيه مجاناً (اضغط هنا)


نكبة البرامكة | بأسلوب رائع مع المبدع نايف حمدان

نكبة البرامكة

للي حاب يقراء القصة كامله  وضعناها لكم بالاسفل

هارون الرشيد ونكبة البرامكة

لم يكن الخليفة "هارون الرشيد" أول خليفة غَضِبَ من جُرْم وزيره فقتله، وزجَّ بأهله وقرابته في السجن، كما حدث مِنْ قتْلِه جعفر بن يحيى البرمكي وإيقاعه بأُسرته.

ولكن نزول ذلك فجأة من غير إعلان السبب، أو ذكر شيء عن السرِّ في هذه النكبة، مع ما للبرامكة في نفوس الناس من شأن كبير؛ نتيجة للدعاية الواسعة التي أحاطوا أنفسهم بها، وما عُرف من صلتهم بالرشيد، وحبه لهم وثقته فيهم - دَفَعَ الفضوليين إلى انتحال تفسيرات لا حقيقة لها، والحاقدين إلى اختلاق الإشاعات والتهم التي لا أصل لها.

وبعض المؤرخين اعتمد من تلك الإشاعات والتفسيرات ما يتفق مع أهوائهم، وشوَّهوا بها حقائق التاريخ، وجاء بعض كُتَّاب التاريخ المتأخرين، فنسجوا على منوالهم، وزعموا أن نكبة البرامكة حدثتْ بلا جريرة منهم، وأنها غدر وعدم وفاء من الرشيد، ونزوة طارئة من نزوات غضبه المعتادة، وتناسوا أن المصادر التاريخية الدقيقة ترفض هذه الإشاعات، وتشير إلى الأسباب الصحيحة، كما تثبت تلك المصادر ما كان عليه الرشيد من صلاح وتقوى، وأنه كان لا يضيع عنده إحسانُ محسن، ولا يؤخر ذلك في أول ما يجب ثوابه، وأنه كان من أحكم الناس، وأقدرهم على كظم غيظه.

ومن الإشاعات التي وضعها العامة سببًا لنكبة البرامكة، ويرفضها المنطق والسند الصحيح: قصة "العباسة بنت المهدي" أخت هارون الرشيد، وقد ذكرها ابن جرير الطبري في تاريخه ج 10 ص 84، وملخصها: أن الرشيد كان لا يصبر عن جعفر بن يحيى، والعباسة أخته، إذا جلس للشراب، فأراد أن يحضرهما معًا في مجلسه ذاك، ولكن الشرع الإسلامي يحول دون جمعهما، فجعفر غريب عنها ومُحرَّم عليها، فاحتال الرشيد للأمر، بأن يزوجه منها لتحل له رؤيتها ومجالستها، فقال لجعفر: أزوجكما على ألا يكون منك شيء مما يكون للرجل إلى زوجته، فقَبِل جعفر، وعقد قرانهما، ولكن جعفر اتصل بها - فيما بعد - كزوجة له، فحملت منه طفلاً، خافت عليه من أخيها، فأبعدتْه إلى مكة، وعلم الرشيد بالأمر، فغضب على جعفر، وانقضَّ على البرامكة لهذا السبب.

وبالرجوع إلى المصادر التاريخية والتحقيقات التي قام بها بعض المؤرخين حول هذه القصة، وخاصة ذلك التحقيق الدقيق الرائع الذي سطره الدكتور عبدالجبار الجومرد في كتابه "هارون الرشيد" ج 2 ص 460 - 468، يتضح أن القصة موضوعة لتشويه بيت الرشيد، ولا ظل لها من الحقيقة؛ وذلك لما يأتي:

أولاً: القصة ذكرها ابن جرير الطبري في تاريخه (ج 10 ص 84) بغير سند، وذلك على غير عادته في الروايات التاريخية الأخرى؛ مما يدل على أنه تلقفها من أفواه العامة في عصره.

ثانيًا: يقول الجهشياري ص 524 (وهو أحد معاصري الطبري الذي روى القصة، وكلاهما قريب من عهد الرشيد): "قال عبدالله بن يحيى بن خاقان: سألت مسرورًا الكبير، في أيام المتوكل - وكان قد عمر إليها ومات فيها - عن سبب قتل الرشيد لجعفر وإيقاعه بالبرامكة، فقال: كأنك تريد ما تقوله العامة فيما ادعوه من أمر المرأة؟! فقلت له: ما أردتُ غيره، فقال: لا والله، ما لشيء من هذا أصل، ولكنه من ملل موالينا وحسدهم"، وقد علق الدكتور عبدالجبار الجومرد على هذه الرواية بقوله: "فمتى علمنا بأن "مسرورًا الكبير" هذا، هو الذي نفذ القتل في جعفر، بأمر من الرشيد، وأن السائل له "ابن خاقان" هو الذي نقل هذه الشهادة إلى الجهشياري بنفسه، قدَّرْنا إذًا قيمة هذه الشهادة من الناحية التاريخية، وأيقنَّا بأن قصة العباسة قد صنعها العامة من أهل بغداد، حين خفيت عليهم أسباب النكبة، ومتى ذكرنا بأن للبرامكة في بغداد - يومئذٍ - دعاةً وأبواقًا لا تكف عن التمجيد بهم، والطعن بخصومهم أمام العامة في أيام حكمهم، عرفنا بأن عددًا كبيرًا منهم حزن عليهم يوم نكبتهم، وحنق على الرشيد للإيقاع بهم، فلا يبعد أن يختلق أحدهم أو بعضهم هذه الحكاية المَشينة، فتسري بين العامة، وسواد العامة يألف الحكايات الطاعنة بالشرف والعِرْض، إذا كانت موجهة ضد كل ذي جاه وسلطان".

ثالثًا: قال الدكتور عبدالجبار في كتاب "هارون الرشيد": "ونقل بعض المؤرخين هذه الرواية، ووسعها آخرون على شكل قصة؛ لِغَاياتٍ في نفوسهم، ثم تناقلتها أيدي المستشرقين وبعض الكتاب في أوروبا في العصرين الأخيرين، وأضافوا إليها من أخيلتهم، وألَّفوا فيها روايات تناسب أذواقهم الاجتماعية في بلادهم، وجعلوها صلة غرامية شعرية، كما تعودوا أن يكتبوا عن أمرائهم في القرون الوسطى، والأغرب من هذا، أن بعض الكتاب أو الشعراء العرب اقتبسوا من الغربيين آراءهم هذه، ونقلوا القصة منهم ثانية إلى العربية، في عصرنا هذا، وألفوا فيها المسرحيات نثرًا وشعرًا، كأن أخبارها صحيحة ومتفق عليها، وكأن ما جاء فيها لا يسيء إلى الحقيقة والتاريخ، ولا يسيء في شيء إلى هذه المرأة المحصنة البريئة أخت الرشيد العاقل العربي الكبير!".

هذه حقائق تاريخية تدل بوضوح على أن القصة موضوعة، ولا صلة لها بالواقع.

وهناك أسباب أخرى تتفق والمنطق السليم والعقل الرشيد، تحدث عنها الدكتور عبدالجبار الجومرد في كتابه "هارون الرشيد"، فقال:

إن الرشيد لم يكن مبتذلاً في مجالسه، ماجنًا تافهَ الرأي بحيث لا يصبر عن جمع أخته مع رجل محرَّم عليها، وكان شديد التمسك بقوميته العربية، فكيف يُزوِّج أخته، وهي من هي بين قومها، برجل فارسي، في حين كان الوسط من العرب يأنفون من ذلك؟! ولو أراد هو مخالفة هذه التقاليد، فكيف يزوجها على هذا الشرط السخيف؟! وكيف يتبع هذه الأساليب الخفية المريبة في تزويج أخته دون أن يكون لهذا الزواج مراسيم تليق بمكانة العروسين؟! ودون أن يعلم أحد بذلك، وأخيرًا فإذا كان قد زوجها من جعفر، وأصبحت زوجة شرعية له، فكيف يسمح له ضميره ودينه وتقواه أن يقتل طفلاً بريئًا هو ثمرة مشروعة لزواج شرعي صنعه بيده، ثم يقتل أباه وهو زوج أخته ووزيره الحبيب إليه؟! ثم يقتل أخته الأثيرة عنده؟! ولم نعثر على خبر واحد صحيح لمجلس أُنس حضرته العباسة مع أخيها الرشيد.

لقد كان الرشيد من أشد الناس غيرة على نساء أسرته، وكان يغضب إذا سمع جارية من جواري أخته "عَلِيَّة" تُغني بشيء من شعرها أمام أحد من الناس، وكان الأصمعي يضع - كمه على رأس "مواسة" بنت الرشيد وهي طفلة صغيرة، ويُقَبِّل كمه؛ خوفًا من غَيْرة أبيها وبطشه، فكيف يصح القول بأن الرشيد كان لا يصبر عن مجالسة أخته العباسة بحضور رجل غريب عنها، وإن أصبح زوجها؟!

وأكثر من ذلك، فإن العباسة كانت متزوجة محصنة، ولكنها منكوبة منكودة الحظ في زواجها، ثم تزوجت ثانية بوالي مصر "إبراهيم بن صالح الهاشمي" فمات، وأيضًا قيل: تزوجت بأمير ثالث، ونظموا في ذلك الأشعار، فكيف تستطيع إذًا هذه البائسة الكئيبة، التي ما خرجت من ترمل وحزن إلا لتدخل في ترمل وحزن آخر، أن تحضر مجالس الأنس والسمر مع الرشيد وجعفر، فتمرح وتنطلق بينهما، وتتظرف وتتندر؟!

وكان جعفر بن يحيى وهو في شبابه وسلطانه، وسَعة ثرائه وجاهه، يستطيع أن يتزوج في كل وقت ممن يريد من حسان النساء المهائر الأكْفاء له من غير الأسر العربية المتزمتة بتقاليدها، وأن يقتني ما يشاء من الجواري البارعات في الحسن بأي ثمن كان، هذا مع العلم بأنه تزوج مبكرًا بعدة نساء، ورُزِق منهن أولادًا عُرِفوا في التاريخ، وامتلك عددًا كبيرًا من أرَقِّ الجواري وأثقفهن، ومن كانت هذه حاله لا يعقل أن يزج بنفسه في طرق ملتوية - مشروعة أو غير مشروعة - تزري بكرامته، وتعرضه إلى سخط الرشيد، وعدد غفير من أمراء بني العباس، وهو يعلم غيرتهم على نسائهم.

ومما تقدم يتضح أن قصة العباسة لا أصل لها، وأنها من وضع غوغاء الناس، وربما كان مصدرها أحد أبواق البرامكة من الشعوبيين، أراد أن يسيء بها إلى كرامة الرشيد، وقد تكون تولدت من نكتة فَاهَ بها أحدُ المُجَّان حين سمع بقتل جعفر، ولم يعرف سبب قتله فقال: (تزوج العباسة فمات)؛ استنادًا إلى ما كان شائعًا من شؤمها، فذهبت النكتة مثلاً، ثم صُنِعَت قصة، فدخلت التاريخ.

أما السبب الحقيقي لنكبة البرامكة، فهو سبب سياسي، يرجع إلى أنهم استغلوا نفوذهم واستأثروا بالسلطة في أيديهم، وقذ ذكر الجهشياري أربع عشرة قضية عدَّدَها الرشيد ليحيى بن خالد في حينه، وكل واحدة منها تكفي عذرًا له في التخلص منهم، وإزاحتهم من طريقه.

وقد قال ابن خلدون في مقدمته ج 1 ص 15: "وإنما نكب البرامكة ما كان من استبدادهم على الدولة، واحتجابهم أموال الجباية، حتى كان الرشيد يطلب اليسير من المال فلا يصل إليه، فغلبوه على أمره، وشاركوه في سلطانه، ولم يكن له معهم تصرف في أمور ملكه".

ويقول الدكتور عبدالجبار الجومرد في كتابه "هارون الرشيد" ج 2 ص 469 في بيان السبب الرئيسي للنكبة ما ملخصه: "أن الرشيد لم يكن غافلاً عن أعمال البرامكة التي توجب محاسبتهم، ولكنه أغمض عينيه فترة غير قصيرة عنهم؛ وفاء لخدماتهم، وحرصًا على صفاء الجو بينه وبينهم، وأملاً في أن يعودوا إلى رشدهم، ولكن أمر البرامكة تفاقم، وسلطانهم ظهر على سلطانه، والنعرة الفارسية والشعوبية تكالبت على قوميته، واستبد "يحيى بن خالد" بكل أمور الدولة، وتدخل "جعفر بن يحيى" في خاصة شؤونه، حتى أوقع بين وَلِيَّيْ عهده الأمين والمأمون، وغرس الحقد بينهما بما يهدد مستقبل الخلافة إذا تنازعا عليها، ومنع المال عن الرشيد بحجة المحافظة على أموال المسلمين، التي راح هو وجماعته يرتعون فيها بغير حساب، وبلغ الأمر إلى أن بات جعفر يحاسب الرشيد على تصرفاته، ولا يأبه إلى اعتراضاته، وقد كان الرشيد يعاني ضيقًا شديدًا من هذه التصرفات، ولكنه كان قوي الاحتمال، عظيم الصبر، واسع الحيلة، ومن أمهر الناس في التظاهر بالرضا وهو في أشد سورة غضبه إذا اقتضى الأمر ذلك، وكان ينفس عما في صدره بهمسات يهمس بها في آذان بعض خاصته، ولكن نبأ هذه الهمسات وصل إلى البرامكة، وتيقنوا منها أن الرجل ضاق ذرعًا بأعمالهم، وأنه قد تغير في السر عليهم، فبدل أن يعدلوا أمورهم ويسلكوا سبيل الإنصاف، عولوا على اتخاذ الحيطة لأنفسهم بما يحول دون تمكنه منهم، ويجعله - دائمًا - في قبضة أيديهم، فقام الفضل بن يحيى الذي عين سنة 178هــ واليًا على الجانب الشرقي للدولة باتخاذ "خراسان" مقرًّا لولايته، وكوَّن بها جيشًا عظيمًا من العجم، قوامه خمسمائة ألف جندي دون أخذ رأي الرشيد وسماه "العباسية"، وجعل ولاء هذا الجيش للبرامكة وحدهم، ولما علم الرشيد بذلك الحدث الخطير، استقدم الفضل إلى بغداد من غير أن يعزله، فحضر إليها ومعه فرقة من هذا الجيش عددها عشرون ألف جندي مسلح من الأعاجم، وقد ثارت الهواجس في نفس الرشيد من تكوين هذا الجيش، ولكنه استطاع أن يحبس هواجسه عن البرامكة وعن الناس، وراح يترقب أخبار هذه الفرقة الأعجمية التي سماها البرامكة بفرقة "الكرمينية"، والتي كان عليها أن تعود إلى موطنها بعد أن أدت واجبها في حراسة موكب الفضل بن يحيى من خطر الطريق، فوجد البرامكة يُنْزِلون هذه الفرقة في معسكر الرصافة؛ لتكون تحت إمرتهم في قلب بغداد، وبعد فترة قصيرة من إقامتها أخذوا عددًا من جنودها وأسكنوهم رحبة من رحاب قصر الخلد؛ ليكونوا حرسًا لشخص الرشيد وأسرته، وبذلك يضعون مصير الرشيد والخلافة العباسية في قبضة أيديهم!

ذلك هو السبب المباشر لنكبتهم، فقد رأى الرشيد أنه أصبح أمام انقلاب مسلح وشيك الوقوع يطيح به وبدولته وبقوميته، وقد روى الجهشياري ص 211 قول جعفر البرمكي لأحد أخِصَّاء الرشيد على إثر عتاب وجهه إليه: ووالله لئن كلفنا الرشيد بما لا نحب، ليكونَنَّ وبالاً عليه سريعًا".

ولقد كان الخليفة الرشيد في قمة الإيمان والرجولة حين قرر في نفسه تحطيم هذا الانقلاب، كما كان بارع الذكاء في تدبير الخطة التي مزق بها جيش العباسية في خراسان، وإضعاف شوكة البرامكة فيها، دون إحداث ضجة تستفز الخصوم، وتُحدِث المشاكل، إلى أن جاءت الساعة الفاصلة في أمرهم.

 

نكبة البرامكة

للي حاب يقراء القصة كامله  وضعناها لكم بالاسفل

هارون الرشيد ونكبة البرامكة

لم يكن الخليفة “هارون الرشيد” أول خليفة غَضِبَ من جُرْم وزيره فقتله، وزجَّ بأهله وقرابته في السجن، كما حدث مِنْ قتْلِه جعفر بن يحيى البرمكي وإيقاعه بأُسرته.

ولكن نزول ذلك فجأة من غير إعلان السبب، أو ذكر شيء عن السرِّ في هذه النكبة، مع ما للبرامكة في نفوس الناس من شأن كبير؛ نتيجة للدعاية الواسعة التي أحاطوا أنفسهم بها، وما عُرف من صلتهم بالرشيد، وحبه لهم وثقته فيهم – دَفَعَ الفضوليين إلى انتحال تفسيرات لا حقيقة لها، والحاقدين إلى اختلاق الإشاعات والتهم التي لا أصل لها.




وبعض المؤرخين اعتمد من تلك الإشاعات والتفسيرات ما يتفق مع أهوائهم، وشوَّهوا بها حقائق التاريخ، وجاء بعض كُتَّاب التاريخ المتأخرين، فنسجوا على منوالهم، وزعموا أن نكبة البرامكة حدثتْ بلا جريرة منهم، وأنها غدر وعدم وفاء من الرشيد، ونزوة طارئة من نزوات غضبه المعتادة، وتناسوا أن المصادر التاريخية الدقيقة ترفض هذه الإشاعات، وتشير إلى الأسباب الصحيحة، كما تثبت تلك المصادر ما كان عليه الرشيد من صلاح وتقوى، وأنه كان لا يضيع عنده إحسانُ محسن، ولا يؤخر ذلك في أول ما يجب ثوابه، وأنه كان من أحكم الناس، وأقدرهم على كظم غيظه.

ومن الإشاعات التي وضعها العامة سببًا لنكبة البرامكة، ويرفضها المنطق والسند الصحيح: قصة “العباسة بنت المهدي” أخت هارون الرشيد، وقد ذكرها ابن جرير الطبري في تاريخه ج 10 ص 84، وملخصها: أن الرشيد كان لا يصبر عن جعفر بن يحيى، والعباسة أخته، إذا جلس للشراب، فأراد أن يحضرهما معًا في مجلسه ذاك، ولكن الشرع الإسلامي يحول دون جمعهما، فجعفر غريب عنها ومُحرَّم عليها، فاحتال الرشيد للأمر، بأن يزوجه منها لتحل له رؤيتها ومجالستها، فقال لجعفر: أزوجكما على ألا يكون منك شيء مما يكون للرجل إلى زوجته، فقَبِل جعفر، وعقد قرانهما، ولكن جعفر اتصل بها – فيما بعد – كزوجة له، فحملت منه طفلاً، خافت عليه من أخيها، فأبعدتْه إلى مكة، وعلم الرشيد بالأمر، فغضب على جعفر، وانقضَّ على البرامكة لهذا السبب.

وبالرجوع إلى المصادر التاريخية والتحقيقات التي قام بها بعض المؤرخين حول هذه القصة، وخاصة ذلك التحقيق الدقيق الرائع الذي سطره الدكتور عبدالجبار الجومرد في كتابه “هارون الرشيد” ج 2 ص 460 – 468، يتضح أن القصة موضوعة لتشويه بيت الرشيد، ولا ظل لها من الحقيقة؛ وذلك لما يأتي:

أولاً: القصة ذكرها ابن جرير الطبري في تاريخه (ج 10 ص 84) بغير سند، وذلك على غير عادته في الروايات التاريخية الأخرى؛ مما يدل على أنه تلقفها من أفواه العامة في عصره.

ثانيًا: يقول الجهشياري ص 524 (وهو أحد معاصري الطبري الذي روى القصة، وكلاهما قريب من عهد الرشيد): “قال عبدالله بن يحيى بن خاقان: سألت مسرورًا الكبير، في أيام المتوكل – وكان قد عمر إليها ومات فيها – عن سبب قتل الرشيد لجعفر وإيقاعه بالبرامكة، فقال: كأنك تريد ما تقوله العامة فيما ادعوه من أمر المرأة؟! فقلت له: ما أردتُ غيره، فقال: لا والله، ما لشيء من هذا أصل، ولكنه من ملل موالينا وحسدهم”، وقد علق الدكتور عبدالجبار الجومرد على هذه الرواية بقوله: “فمتى علمنا بأن “مسرورًا الكبير” هذا، هو الذي نفذ القتل في جعفر، بأمر من الرشيد، وأن السائل له “ابن خاقان” هو الذي نقل هذه الشهادة إلى الجهشياري بنفسه، قدَّرْنا إذًا قيمة هذه الشهادة من الناحية التاريخية، وأيقنَّا بأن قصة العباسة قد صنعها العامة من أهل بغداد، حين خفيت عليهم أسباب النكبة، ومتى ذكرنا بأن للبرامكة في بغداد – يومئذٍ – دعاةً وأبواقًا لا تكف عن التمجيد بهم، والطعن بخصومهم أمام العامة في أيام حكمهم، عرفنا بأن عددًا كبيرًا منهم حزن عليهم يوم نكبتهم، وحنق على الرشيد للإيقاع بهم، فلا يبعد أن يختلق أحدهم أو بعضهم هذه الحكاية المَشينة، فتسري بين العامة، وسواد العامة يألف الحكايات الطاعنة بالشرف والعِرْض، إذا كانت موجهة ضد كل ذي جاه وسلطان”.

ثالثًا: قال الدكتور عبدالجبار في كتاب “هارون الرشيد”: “ونقل بعض المؤرخين هذه الرواية، ووسعها آخرون على شكل قصة؛ لِغَاياتٍ في نفوسهم، ثم تناقلتها أيدي المستشرقين وبعض الكتاب في أوروبا في العصرين الأخيرين، وأضافوا إليها من أخيلتهم، وألَّفوا فيها روايات تناسب أذواقهم الاجتماعية في بلادهم، وجعلوها صلة غرامية شعرية، كما تعودوا أن يكتبوا عن أمرائهم في القرون الوسطى، والأغرب من هذا، أن بعض الكتاب أو الشعراء العرب اقتبسوا من الغربيين آراءهم هذه، ونقلوا القصة منهم ثانية إلى العربية، في عصرنا هذا، وألفوا فيها المسرحيات نثرًا وشعرًا، كأن أخبارها صحيحة ومتفق عليها، وكأن ما جاء فيها لا يسيء إلى الحقيقة والتاريخ، ولا يسيء في شيء إلى هذه المرأة المحصنة البريئة أخت الرشيد العاقل العربي الكبير!”.

هذه حقائق تاريخية تدل بوضوح على أن القصة موضوعة، ولا صلة لها بالواقع.

وهناك أسباب أخرى تتفق والمنطق السليم والعقل الرشيد، تحدث عنها الدكتور عبدالجبار الجومرد في كتابه “هارون الرشيد”، فقال:

إن الرشيد لم يكن مبتذلاً في مجالسه، ماجنًا تافهَ الرأي بحيث لا يصبر عن جمع أخته مع رجل محرَّم عليها، وكان شديد التمسك بقوميته العربية، فكيف يُزوِّج أخته، وهي من هي بين قومها، برجل فارسي، في حين كان الوسط من العرب يأنفون من ذلك؟! ولو أراد هو مخالفة هذه التقاليد، فكيف يزوجها على هذا الشرط السخيف؟! وكيف يتبع هذه الأساليب الخفية المريبة في تزويج أخته دون أن يكون لهذا الزواج مراسيم تليق بمكانة العروسين؟! ودون أن يعلم أحد بذلك، وأخيرًا فإذا كان قد زوجها من جعفر، وأصبحت زوجة شرعية له، فكيف يسمح له ضميره ودينه وتقواه أن يقتل طفلاً بريئًا هو ثمرة مشروعة لزواج شرعي صنعه بيده، ثم يقتل أباه وهو زوج أخته ووزيره الحبيب إليه؟! ثم يقتل أخته الأثيرة عنده؟! ولم نعثر على خبر واحد صحيح لمجلس أُنس حضرته العباسة مع أخيها الرشيد.

لقد كان الرشيد من أشد الناس غيرة على نساء أسرته، وكان يغضب إذا سمع جارية من جواري أخته “عَلِيَّة” تُغني بشيء من شعرها أمام أحد من الناس، وكان الأصمعي يضع – كمه على رأس “مواسة” بنت الرشيد وهي طفلة صغيرة، ويُقَبِّل كمه؛ خوفًا من غَيْرة أبيها وبطشه، فكيف يصح القول بأن الرشيد كان لا يصبر عن مجالسة أخته العباسة بحضور رجل غريب عنها، وإن أصبح زوجها؟!

وأكثر من ذلك، فإن العباسة كانت متزوجة محصنة، ولكنها منكوبة منكودة الحظ في زواجها، ثم تزوجت ثانية بوالي مصر “إبراهيم بن صالح الهاشمي” فمات، وأيضًا قيل: تزوجت بأمير ثالث، ونظموا في ذلك الأشعار، فكيف تستطيع إذًا هذه البائسة الكئيبة، التي ما خرجت من ترمل وحزن إلا لتدخل في ترمل وحزن آخر، أن تحضر مجالس الأنس والسمر مع الرشيد وجعفر، فتمرح وتنطلق بينهما، وتتظرف وتتندر؟!

وكان جعفر بن يحيى وهو في شبابه وسلطانه، وسَعة ثرائه وجاهه، يستطيع أن يتزوج في كل وقت ممن يريد من حسان النساء المهائر الأكْفاء له من غير الأسر العربية المتزمتة بتقاليدها، وأن يقتني ما يشاء من الجواري البارعات في الحسن بأي ثمن كان، هذا مع العلم بأنه تزوج مبكرًا بعدة نساء، ورُزِق منهن أولادًا عُرِفوا في التاريخ، وامتلك عددًا كبيرًا من أرَقِّ الجواري وأثقفهن، ومن كانت هذه حاله لا يعقل أن يزج بنفسه في طرق ملتوية – مشروعة أو غير مشروعة – تزري بكرامته، وتعرضه إلى سخط الرشيد، وعدد غفير من أمراء بني العباس، وهو يعلم غيرتهم على نسائهم.

ومما تقدم يتضح أن قصة العباسة لا أصل لها، وأنها من وضع غوغاء الناس، وربما كان مصدرها أحد أبواق البرامكة من الشعوبيين، أراد أن يسيء بها إلى كرامة الرشيد، وقد تكون تولدت من نكتة فَاهَ بها أحدُ المُجَّان حين سمع بقتل جعفر، ولم يعرف سبب قتله فقال: (تزوج العباسة فمات)؛ استنادًا إلى ما كان شائعًا من شؤمها، فذهبت النكتة مثلاً، ثم صُنِعَت قصة، فدخلت التاريخ.

أما السبب الحقيقي لنكبة البرامكة، فهو سبب سياسي، يرجع إلى أنهم استغلوا نفوذهم واستأثروا بالسلطة في أيديهم، وقذ ذكر الجهشياري أربع عشرة قضية عدَّدَها الرشيد ليحيى بن خالد في حينه، وكل واحدة منها تكفي عذرًا له في التخلص منهم، وإزاحتهم من طريقه.

وقد قال ابن خلدون في مقدمته ج 1 ص 15: “وإنما نكب البرامكة ما كان من استبدادهم على الدولة، واحتجابهم أموال الجباية، حتى كان الرشيد يطلب اليسير من المال فلا يصل إليه، فغلبوه على أمره، وشاركوه في سلطانه، ولم يكن له معهم تصرف في أمور ملكه”.

ويقول الدكتور عبدالجبار الجومرد في كتابه “هارون الرشيد” ج 2 ص 469 في بيان السبب الرئيسي للنكبة ما ملخصه: “أن الرشيد لم يكن غافلاً عن أعمال البرامكة التي توجب محاسبتهم، ولكنه أغمض عينيه فترة غير قصيرة عنهم؛ وفاء لخدماتهم، وحرصًا على صفاء الجو بينه وبينهم، وأملاً في أن يعودوا إلى رشدهم، ولكن أمر البرامكة تفاقم، وسلطانهم ظهر على سلطانه، والنعرة الفارسية والشعوبية تكالبت على قوميته، واستبد “يحيى بن خالد” بكل أمور الدولة، وتدخل “جعفر بن يحيى” في خاصة شؤونه، حتى أوقع بين وَلِيَّيْ عهده الأمين والمأمون، وغرس الحقد بينهما بما يهدد مستقبل الخلافة إذا تنازعا عليها، ومنع المال عن الرشيد بحجة المحافظة على أموال المسلمين، التي راح هو وجماعته يرتعون فيها بغير حساب، وبلغ الأمر إلى أن بات جعفر يحاسب الرشيد على تصرفاته، ولا يأبه إلى اعتراضاته، وقد كان الرشيد يعاني ضيقًا شديدًا من هذه التصرفات، ولكنه كان قوي الاحتمال، عظيم الصبر، واسع الحيلة، ومن أمهر الناس في التظاهر بالرضا وهو في أشد سورة غضبه إذا اقتضى الأمر ذلك، وكان ينفس عما في صدره بهمسات يهمس بها في آذان بعض خاصته، ولكن نبأ هذه الهمسات وصل إلى البرامكة، وتيقنوا منها أن الرجل ضاق ذرعًا بأعمالهم، وأنه قد تغير في السر عليهم، فبدل أن يعدلوا أمورهم ويسلكوا سبيل الإنصاف، عولوا على اتخاذ الحيطة لأنفسهم بما يحول دون تمكنه منهم، ويجعله – دائمًا – في قبضة أيديهم، فقام الفضل بن يحيى الذي عين سنة 178هــ واليًا على الجانب الشرقي للدولة باتخاذ “خراسان” مقرًّا لولايته، وكوَّن بها جيشًا عظيمًا من العجم، قوامه خمسمائة ألف جندي دون أخذ رأي الرشيد وسماه “العباسية”، وجعل ولاء هذا الجيش للبرامكة وحدهم، ولما علم الرشيد بذلك الحدث الخطير، استقدم الفضل إلى بغداد من غير أن يعزله، فحضر إليها ومعه فرقة من هذا الجيش عددها عشرون ألف جندي مسلح من الأعاجم، وقد ثارت الهواجس في نفس الرشيد من تكوين هذا الجيش، ولكنه استطاع أن يحبس هواجسه عن البرامكة وعن الناس، وراح يترقب أخبار هذه الفرقة الأعجمية التي سماها البرامكة بفرقة “الكرمينية”، والتي كان عليها أن تعود إلى موطنها بعد أن أدت واجبها في حراسة موكب الفضل بن يحيى من خطر الطريق، فوجد البرامكة يُنْزِلون هذه الفرقة في معسكر الرصافة؛ لتكون تحت إمرتهم في قلب بغداد، وبعد فترة قصيرة من إقامتها أخذوا عددًا من جنودها وأسكنوهم رحبة من رحاب قصر الخلد؛ ليكونوا حرسًا لشخص الرشيد وأسرته، وبذلك يضعون مصير الرشيد والخلافة العباسية في قبضة أيديهم!

ذلك هو السبب المباشر لنكبتهم، فقد رأى الرشيد أنه أصبح أمام انقلاب مسلح وشيك الوقوع يطيح به وبدولته وبقوميته، وقد روى الجهشياري ص 211 قول جعفر البرمكي لأحد أخِصَّاء الرشيد على إثر عتاب وجهه إليه: ووالله لئن كلفنا الرشيد بما لا نحب، ليكونَنَّ وبالاً عليه سريعًا”.

ولقد كان الخليفة الرشيد في قمة الإيمان والرجولة حين قرر في نفسه تحطيم هذا الانقلاب، كما كان بارع الذكاء في تدبير الخطة التي مزق بها جيش العباسية في خراسان، وإضعاف شوكة البرامكة فيها، دون إحداث ضجة تستفز الخصوم، وتُحدِث المشاكل، إلى أن جاءت الساعة الفاصلة في أمرهم.

 




  ● تنويه لزوار الموقع (الجدد) :- يمكنك الإشتراك بالأخبار عبر الواتساب مجاناً انقر هنا ليصلك كل ماهو جديد و حصري .



نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لنمنحك أفضل تجربة ممكنة على موقعنا. بالمتابعة في استخدام هذا الموقع، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط.
قبول
رفض
سياسة الخصوصية