على بُعد 300 كم بين مدينتي تبوك والجوف، وفي منطقة صحراوية واسعة، كنّا على موعد مع زمن آخر إن صح التعبير، ما بين حضارة اليوم وظروف الأمس إنساناً ومكاناً، أو لنقل عيش الحاضر بصورة الماضي.
منطقة صحراوية شاسعة تحتضن أكثر من 500 شخص يُشكّلون عماد قبيلة من البدو الرحل، كأنما اختاروا أن يتحرروا من ارتباط المكان وأسر المدنية، غير أن الأمر اختلف فبقيت المعاناة أكثر من أي شيء آخر.
وفيما نقترب من خيمة كبيرة نلمح طفلين ما بين الخامسة والعاشرة يتشاركان حمل بعض أكياس المؤونة، فيما يحمل ثالث بقية إناء كبير يُستخدم لسقيا الحيوانات.
معاناة مستمرة
في خيمة كبيرة كان في استقبال فريق “سبق” بعض أفراد القبيلة، يعتصر رضى حمود النواصرة مرارة كبيرة، وهو يقول: “تعرف قبيلتنا بالنواصرة، ونعتبر بدواً رحلاً، ليس لدينا ارتباط بالعالم المحيط بنا؛ لافتقادنا وسائل الاتصال الحديثة ويسكن أفضلنا حالاً في منازل من بيوت الشعر والخيام، فيما وصلت الفاقة لعدد كبير منا بإكمال أروقة منزله من أكياس فوارغ الحصاد التي يستخدمه المزارعون، وهذه المنازل لا تقي من لهيب الصيف أو برد الشتاء.
ويكشف “النواصرة” أنه “أثناء ترسيم الحدود بين السعودية والأردن ارتكب أجدادنا خطأ ببقائهم في الصحراء دون أن يبلغوا الجهات المعنية، الأمر الذي صعّب علينا -نحن أبناءهم- الحصول على الجنسية السعودية، فنحن لا نعرف غير هذا المكان منذ أكثر من 100 عام، ولا تزال قبور أجدادنا في هذا الموقع.
أول الدواء “الكي”!
المعاناة واضحة.. يلتقط سليمان النواصرة أطراف الحديث: “لا يمكن لنا العلاج من الأمراض المزمنة أو الخطيرة؛ لعدم وجود سجلات مدنية لنا، ولكن الأمراض البسيطة تتعاون معنا بعض المراكز والمستشفيات في الحصول على العلاج، وأحياناً بمساعدة محافظي المحافظات التي نسكن بالقرب منها”.
سلسلة التجاهل تشمل أيضاً معاناة الأطفال المعاقين في القبيلة، وأيضاً بعض المصابين بالأمراض النفسية، هذا بالإضافة لمعاناة كبار السن من الأمراض المزمنة المعروفة، فيما المحظوظون من أطفال القبيلة من حصلوا على التطعيمات التي عادة تكون غير مثبتة رسمياً، فالوصول لمراكز الرعاية الأولية والمستشفيات صعب جداً؛ في ظل انعدام وسائل التنقل الحديثة، وبالتالي فالعلاج الأغلب هو الأعشاب أو (آخر الدواء الكي)، حيث هنا قد يكون أول الخيارات.
مشكلة الهوية
أزمة الهوية الرسمية هي أكبر معضلة تواجه أبناء القبيلة، يضيف “النواصرة”: بعد تعذر حصولنا على الهويات الوطنية عمدت الجهات المعنية لتصحيح جزء من وضعنا، وذلك بمنحنا بطاقات مؤقتة لا تحتوي على سجل مدني للتعريف بأنفسنا، تجدد كل عام من قبل حرس الحدود التابع لوزارة الداخلية، ولكن هذه البطاقة لا تخوّلنا العلاج في المستشفيات أو الركوب في الطائرة أو النقل الجماعي أو امتلاك سيارة أو شريحة جوال أو فتح حساب بنكي أو دخول المدارس، أو أداء مناسك الحج، مبيناً أن تاريخ ميلاد الأطفال غير مثبت إلا من خلال ورقة التطعيم غير الرسمية، مبيناً أن فقدان هذه الورقة يعني أنك تفقد تاريخ ميلاد ابنك، فتاريخ الميلاد غير مثبت بشكل رسمي.
ويضيف: “أما التعليم فلا يمكنه الالتحاق بالدارسة إلا من تكون والدته سعودية، أو من خلال تعاون بعض إدارات التعليم في السابق، لكن لا يمنحوننا شهادة بذلك، ويعيش هناك أطفال بين سن السابعة والعاشرة لا يعرفون الحروف، فيما يعاني البقية الجهل الكامل حتى للأمور الشرعية، فالأمية تشكّل نسبة عالية تصل إلى 100%”.
بين الموت والحياة
يمكن لزائر القبيلة أن يشاهد قبور أبنائها الراحلين بين الأحياء، ويقول رضى النواصرة: ليس كل النساء يستطعن الإنجاب في المستشفيات، بل البعض منهن تقوم النساء بتوليدهن لأسباب عدة أهمها وسيلة المواصلات، مبيناً أن في السابق إذا توفي منا أي شخص نقوم بدفنه بعد الحصول على ورقة إثبات من أحد المراكز القريبة، والتي تأتي بعد إجراءات معقدة في الصحراء، وهو موقع اتخذناه كمقبرة، بعد أن نقوم بتغسيله والصلاة عليه، حتى إن المقبرة مكشوفة ليست كالمقابر محاطة بسور أو حتى سياج حديدي، أما في الوقت الحالي فنقوم بنقل المتوفى إلى المستشفى، وبعد عدة مراحل وإجراءات معقدة جداً نقوم بدفنه في المقابر”.
وعن الحج مثلاً يقول: “الحج يتطلب أن يكون هناك سجل مدني حتى نحجّ بصورة نظامية، وفي وضعنا لا يمكننا الحج، فالكثير منا لم يصل لمكة ولم يحجّ أو حتى يعتمر”، أما الزواج “فكل الزواجات بيننا تقوم بصورة شفوية، وكذلك الطلاق، فهي غير موثقة يقتصر ذلك على الشهود ثم ينتهي الأمر”.
لا مصادر دخل
ويؤكد أفراد القبيلة أنهم لا يعرفون غير هذه المنطقة من أجدادهم السابقين، فيما يؤكد معظمهم أن جدّهم السابع مدفون في هذه البلاد، مشيرين إلى حرص وتعاون كل الجهات المعنية معهم من خلال مساعدتهم، إلا أن ذلك لا يكفي لمعالجة وضعهم الذي يمكّنهم من التوظيف، حيث يقتصر دخلهم على المواشي، فلا سبيل لإيجاد أي مصدر دخل غير الماشية، وهي ليست متوفرة لدى الجميع؛ فالبعض لا يملك أي مصدر دخل غير ما يأتيه من أهل الخير”.
حلول في الطريق
“سبق” بدورها نقلت رسالتهم المثخنة بالألم والمعاناة إلى المسؤولين، وتعليقاً على ذلك يؤكد محافظ طبرجل التابعة لمنطقة الجوف فيصل الشامي لـ”سبق” أن هناك حلولاً في طريقها لهذه القبيلة تمكّنهم من العلاج والتعليم، مضيفاً: “الجهات المعنية تسعى دائماً لمساعدتهم من خلال توفير سلال غذائية تصلهم عن طريق الشاحنات، كما تسمح لهم بالعلاج، لافتاً إلى أنهم لا يستقرون في مكان واحد؛ فهم يعيشون ما بين بسيطا التابعة للجوف ومنطقة الطبيق التابعة لتبوك”.
وفي النهاية ورغم المساعدات المقدمة لهم في منطقتي تبوك والجوف بتمكينهم من العلاج أو التعليم أو زيارة الجمعيات الخيرية لهم، إلا أن هذه المساعدات لا تكفي لبلوغ الحد الأدنى من الحياة الكريمة.
https://www.youtube.com/watch?v=3a5LJc2Kmqo
● تنويه لزوار الموقع (الجدد) :- يمكنك الإشتراك بالأخبار عبر الواتساب مجاناً انقر هنا ليصلك كل ماهو جديد و حصري .